الرئيسية
أحدث الصور
من طرف ظواهر لغوية
إبدال الجيم ياءأذكر مما أذكر أننا ونحن أطفال صغار ندرج على هذه البسيطة ، قد كنا ننطق ألفاظا كثيرة متداولة في محيط الأسرة والبلدة التي نسكنها ، بالياء بدلا من الجيم ، فنقول : ( مَسيد ) بدلا من ( مسجد ) ، و(مايد ) بدلا من (ماجد ) ،ونسمع المزارعين من أهلنا وغيرهم يقولون : ( زرعت شِيَرة ) وهم يقصدون ( شَجَرة )
وقد كان هذا في لغة التخاطب أما اللغة المكتوبة ولغة العلم فإن الاستخدام بالجيم على الأصل.
ثم انقضت تلك السنون ومرّت سنون غيرها ،وعلمت بعدُ بأنّ هذا الاستعمال له أصل في لغة العرب .
فقد روت كتب اللغة بأن العرب قديمًا قدنطقوا الجيم ياء في ألفاظ قليلة ، فقد حكى أبو الفضل الرياشي عن أعرابي بأنه قرأ ( الشِّيرة ) بإبدال الجيم ياء في قوله تعالى
( ولاتقربا هذه الشَّجَرة ) ( البقرة /35)
(1)
فالعرب تقول ( شِيرة ) في ( شجرة ) .
وحسب المرء أن يقرأ مانُقل عن أم الهيثم المنقرية التي تعدُّ حجة في التشريع اللغوي عندما سُئلت، هل تبدل العرب من الجيم يا؟ فقالت: نعم، وأنشدت:
إذا لم يكن فيكنّ ظل ولا جنى فأبعدكنّ الله من شِيرات.(2)
فقول أم الهيثم : ( نعم ) دليل على أن الجيم أصل وأن الياء مبدلة منها.
لكن العالم اللغويّ الفذَّ أبا الفتح ابن جني ( ت 392هـ ) يرى بأن الياء في ( شِيَرة ) أصل وليست بمبدلة، وحجته في ذلك تصغيرها على ( شُييرة )(3) لكن المرجّح عندنا أن كلمة ( شَجَرة ) وجمعها ( أشجَار ) بالجيم أكثر من الياء، وأن المتحدثين بالجيم أكثر من المتحدثين بالياء، وأن (الياء ) بدل من الجيم وأن الجيم أصل وهذه الظاهرة جليّّة واضحة في التراث العربي، وقد وسمها علماء اللغة القدماء بـ( الإبدال اللغوي ) وتبعهم المحدثون في ذلك.(4)
وقد روى اللغويون إبدال الياء جيما في لغة تميم، فقد روى الأزهري عن ابن الهيثم أنها لغة في تميم معروفة(5) ،وأشار ابن منظور إلى ذلك في اللسان .(6)
ومن الأمثلة على هذا الإبدال، قولهم في ( صهريج ): ( صهريّ )، وقولهم في ( شَجَرة): ( شِيَرة )، وقاس عليهما بعض العلماء: بعير أزْيم ) بدل: (أزْجَم ) بمعنى لايرغو،(7) وليس بين (الأزيم ) والأزجم إلا إبدال الجيم ياء، وهي لغة في تميم معروفة، وقد أنشد أبو جعفر الهذيمي وكان عالمًا:
من كل أزْيَم شائك أنيابه ومقصِّف بالهدر كيف يَصُولُ(
وقاس ابن سيدة على ذلك : ( يار ) في : ( جار ) .(9)
وأظن أن قلب الجيم ياءً كان قلبًا خاصًا للأسباب الآتية :
1- مجاورة الجيم لصوت شجْري هو الشين في ( شَجَرة ) والياء في ( صهريج ).
2- تسكين الجيم في ( شَجَرَة ) كما هي عادة قبيلة تميم التخفيف في رُسُل - رُسْل ، وكَبِد - كِبْد ، فلما سكنت ثقل اجتماعهما فانقلبت إلى ياء ، قال ابن يعيش : " الجيم شديدة ولولا شدتها لكانت ياء "
وبين صوتي الجيم والياء وشائج من القربى كبيرة، فقد أثبت البحث اللغوي في العصر الحديث اتفاق صوتي الجيم والياء في المخرج فكلاهما من وسط اللسان مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى وكلاهما مجهور مستفل منفتح مسمط .(10)
وما أثر عن العرب من استخدامات لبعض كلمات جرى إبدال الجيم فيها ياء تُعَدُّ شذرات معدودة ، إلا أن هذا الإبدال امتدّ ليشمل ألفاظا كثيرة لاتسعها السطور بله الصدور .
وقد نعلم أن الاستخدام هوأساس التطور اللغوي فإذا كان هذا المستخدم ذا مكانة اجتماعية مرموقة وقلّده المقربون منه، أو من أرادوا التقرب منه، ثم اتسعت دائرة المقلِّدين شيئًا فأصبح هذا التجديد نمطًا لغويًا سائدا وعرفًا ملزمًا، وأصبحت الصورة الناجمة هي المتعارف، وانقرضت الصورة الأولى .(11) ومن اتسع نطاق إبدال الجيم في ألفاظ غير ماروى عن العرب القدماء.
وظاهرة قلب الصوت إلى صوت قريب منه في المخرج معروفة في اللغات. ولايمكن أن نغفل بأن العامة يجنحون إلى استخدام الأسهل من الأصوات وبخاصة أهل الحاضرة، وقد آثروا هذا الاستخدام وظهر ولَعُهم به، حتى صار ديدن الجَمّاء الغفير من أهل عُمان والخليج العربي وبعض أجزاء من اليمن ونجد، وجنوب العراق.
وبما تقدم ظهر عندي أن لا مندوحة لشائن أو مُزْر ضدّ من يستخدم الياء بدلاً من الجيم في ألفاظ من لغة تخاطبه. الهوامش :
(1) البحر المحيط ، أبوحيان الأندلسي ، 1/ 306
(2) الإبدال ، ابو الطيب اللغوي ، 1/261
(3) لسان العرب ، 6/61-62
(4) انظر الإبدال لأبي الطيب اللغوي ،أما من المحدثين رمضان عبد التواب ، فقد أطلق على الظاهرة الإبدال اللغوي التاريخي ، انظر : لحن العامة والتطور اللغوي ، ككتبة الخانجي ، القاهرة 1977 ، ص 24
(5) تهذيب اللغة ، تحقيق ، عبدالسلام هارون وآخرين ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، 1967 ، 13/275
(6) ابن منظور ، 12/280
(7) تهذيب اللغة ، 13/275
( لسان العرب ، 21/280
(9) المخصص ، 14/34
(10) انظر : الأصوات اللغوية ، ابراهيم أنيس ، 24، 76
(11) انظر : اللغة عبر القرون ، محمود فهمي حجازي ، ص 10
د. سالم بن عبدالله البلوشي
salemabdullah@gmail.com
إبدال الجيم ياءأذكر مما أذكر أننا ونحن أطفال صغار ندرج على هذه البسيطة ، قد كنا ننطق ألفاظا كثيرة متداولة في محيط الأسرة والبلدة التي نسكنها ، بالياء بدلا من الجيم ، فنقول : ( مَسيد ) بدلا من ( مسجد ) ، و(مايد ) بدلا من (ماجد ) ،ونسمع المزارعين من أهلنا وغيرهم يقولون : ( زرعت شِيَرة ) وهم يقصدون ( شَجَرة )
وقد كان هذا في لغة التخاطب أما اللغة المكتوبة ولغة العلم فإن الاستخدام بالجيم على الأصل.
ثم انقضت تلك السنون ومرّت سنون غيرها ،وعلمت بعدُ بأنّ هذا الاستعمال له أصل في لغة العرب .
فقد روت كتب اللغة بأن العرب قديمًا قدنطقوا الجيم ياء في ألفاظ قليلة ، فقد حكى أبو الفضل الرياشي عن أعرابي بأنه قرأ ( الشِّيرة ) بإبدال الجيم ياء في قوله تعالى
( ولاتقربا هذه الشَّجَرة ) ( البقرة /35)
(1)
فالعرب تقول ( شِيرة ) في ( شجرة ) .
وحسب المرء أن يقرأ مانُقل عن أم الهيثم المنقرية التي تعدُّ حجة في التشريع اللغوي عندما سُئلت، هل تبدل العرب من الجيم يا؟ فقالت: نعم، وأنشدت:
إذا لم يكن فيكنّ ظل ولا جنى فأبعدكنّ الله من شِيرات.(2)
فقول أم الهيثم : ( نعم ) دليل على أن الجيم أصل وأن الياء مبدلة منها.
لكن العالم اللغويّ الفذَّ أبا الفتح ابن جني ( ت 392هـ ) يرى بأن الياء في ( شِيَرة ) أصل وليست بمبدلة، وحجته في ذلك تصغيرها على ( شُييرة )(3) لكن المرجّح عندنا أن كلمة ( شَجَرة ) وجمعها ( أشجَار ) بالجيم أكثر من الياء، وأن المتحدثين بالجيم أكثر من المتحدثين بالياء، وأن (الياء ) بدل من الجيم وأن الجيم أصل وهذه الظاهرة جليّّة واضحة في التراث العربي، وقد وسمها علماء اللغة القدماء بـ( الإبدال اللغوي ) وتبعهم المحدثون في ذلك.(4)
وقد روى اللغويون إبدال الياء جيما في لغة تميم، فقد روى الأزهري عن ابن الهيثم أنها لغة في تميم معروفة(5) ،وأشار ابن منظور إلى ذلك في اللسان .(6)
ومن الأمثلة على هذا الإبدال، قولهم في ( صهريج ): ( صهريّ )، وقولهم في ( شَجَرة): ( شِيَرة )، وقاس عليهما بعض العلماء: بعير أزْيم ) بدل: (أزْجَم ) بمعنى لايرغو،(7) وليس بين (الأزيم ) والأزجم إلا إبدال الجيم ياء، وهي لغة في تميم معروفة، وقد أنشد أبو جعفر الهذيمي وكان عالمًا:
من كل أزْيَم شائك أنيابه ومقصِّف بالهدر كيف يَصُولُ(
وقاس ابن سيدة على ذلك : ( يار ) في : ( جار ) .(9)
وأظن أن قلب الجيم ياءً كان قلبًا خاصًا للأسباب الآتية :
1- مجاورة الجيم لصوت شجْري هو الشين في ( شَجَرة ) والياء في ( صهريج ).
2- تسكين الجيم في ( شَجَرَة ) كما هي عادة قبيلة تميم التخفيف في رُسُل - رُسْل ، وكَبِد - كِبْد ، فلما سكنت ثقل اجتماعهما فانقلبت إلى ياء ، قال ابن يعيش : " الجيم شديدة ولولا شدتها لكانت ياء "
وبين صوتي الجيم والياء وشائج من القربى كبيرة، فقد أثبت البحث اللغوي في العصر الحديث اتفاق صوتي الجيم والياء في المخرج فكلاهما من وسط اللسان مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى وكلاهما مجهور مستفل منفتح مسمط .(10)
وما أثر عن العرب من استخدامات لبعض كلمات جرى إبدال الجيم فيها ياء تُعَدُّ شذرات معدودة ، إلا أن هذا الإبدال امتدّ ليشمل ألفاظا كثيرة لاتسعها السطور بله الصدور .
وقد نعلم أن الاستخدام هوأساس التطور اللغوي فإذا كان هذا المستخدم ذا مكانة اجتماعية مرموقة وقلّده المقربون منه، أو من أرادوا التقرب منه، ثم اتسعت دائرة المقلِّدين شيئًا فأصبح هذا التجديد نمطًا لغويًا سائدا وعرفًا ملزمًا، وأصبحت الصورة الناجمة هي المتعارف، وانقرضت الصورة الأولى .(11) ومن اتسع نطاق إبدال الجيم في ألفاظ غير ماروى عن العرب القدماء.
وظاهرة قلب الصوت إلى صوت قريب منه في المخرج معروفة في اللغات. ولايمكن أن نغفل بأن العامة يجنحون إلى استخدام الأسهل من الأصوات وبخاصة أهل الحاضرة، وقد آثروا هذا الاستخدام وظهر ولَعُهم به، حتى صار ديدن الجَمّاء الغفير من أهل عُمان والخليج العربي وبعض أجزاء من اليمن ونجد، وجنوب العراق.
وبما تقدم ظهر عندي أن لا مندوحة لشائن أو مُزْر ضدّ من يستخدم الياء بدلاً من الجيم في ألفاظ من لغة تخاطبه. الهوامش :
(1) البحر المحيط ، أبوحيان الأندلسي ، 1/ 306
(2) الإبدال ، ابو الطيب اللغوي ، 1/261
(3) لسان العرب ، 6/61-62
(4) انظر الإبدال لأبي الطيب اللغوي ،أما من المحدثين رمضان عبد التواب ، فقد أطلق على الظاهرة الإبدال اللغوي التاريخي ، انظر : لحن العامة والتطور اللغوي ، ككتبة الخانجي ، القاهرة 1977 ، ص 24
(5) تهذيب اللغة ، تحقيق ، عبدالسلام هارون وآخرين ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، 1967 ، 13/275
(6) ابن منظور ، 12/280
(7) تهذيب اللغة ، 13/275
(
لسان العرب ، 21/280(9) المخصص ، 14/34
(10) انظر : الأصوات اللغوية ، ابراهيم أنيس ، 24، 76
(11) انظر : اللغة عبر القرون ، محمود فهمي حجازي ، ص 10
د. سالم بن عبدالله البلوشي
salemabdullah@gmail.com
» طريقه مضمونه عشان تزود منحتك
» الحفل الختامي ﻷنشطة السكن للعام الدراسي 2009-2010
» بين حب وخوف
» تامين قبولات ماجستير في فرنسا (master.france@hotmail.com )
» مجموعة كتب (سيرة الرسول ) صلى الله عليه و سلم
» لكل شخص فقد الأمل ....منعوه فمشى فجراً
» صليت نفس ماما
» هل تريد استمرار المنتدى ؟